كواليس صحراوية : بقلم / ذ . إبراهيم أبهوش
من لا يعرف العلاقات المغربية البريطانية يجهل الكثير، فهي ليست مجرد اتفاقيات دبلوماسية، بل تراكم تاريخي طويل شكّل محورًا من محاور السياسة الخارجية للمغرب منذ عقود، قيادة جلالة الملك محمد السادس لهذه العلاقات لم تكن مجرد إدارة ملفات، بل كانت توجيهًا استراتيجيًا يضع المغرب في موقع الفاعل وليس المتلقي.
أعتقد أن أهمية هذا التحول تكمن في وضوح الرؤية المغربية، حيث أن قضية الصحراء المغربية لم تعد ملفًا للنقاش، بل أصبحت النظارة التي يُقاس بها الموقف الدولي من المغرب، بين من يدرك الحقائق وبين من يتجاهلها لمصالحه الخاصة.
موقف بريطانيا الأخير، باعتبار مقترح الحكم الذاتي المغربي الحل الأكثر واقعية، ليس صدفة، بل نتيجة عقود من العمل الدبلوماسي الذكي القائم على بناء التحالفات والتأثير في موازين القوى.
يتجاهل الأعداء أن العلاقات المغربية البريطانية تعززت بشكل ملموس في عدة مجالات، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين مليار جنيه إسترليني سنة 2012، مع استمرار نمو المبادلات الاقتصادية في السنوات الأخيرة. إضافةً إلى ذلك، هناك 25.000 مهاجر مغربي في المملكة المتحدة يسهمون في الاقتصاد البريطاني، بينما يستقبل المغرب ما يقارب 500.000 سائح بريطاني سنويًا، وهو ما يعكس أهمية البعد السياحي في العلاقة بين البلدين.
أما على المستوى الطاقي، فقد كان مشروع الربط الكهربائي بين المغرب وبريطانيا أحد أبرز إنجازات التعاون بين البلدين، حيث يهدف إلى تزويد سبعة ملايين منزل بريطاني بالكهرباء النظيفة بحلول سنة 2030، وهو ما يعزز مكانة المغرب كمصدر رئيسي للطاقة المستدامة في المنطقة.
كما أن اتفاق تعاون بقيمة 200 مليون جنيه إسترليني، الذي يهدف إلى دعم الخبرة البريطانية في مجال التدبير المستدام للمياه وتطوير البنيات التحتية المينائية الحديثة، سيسهم إلى جانب مجال الرياضة في هذا التعاون، لاسيما في إطار التحضيرات لكأس العالم لكرة القدم 2030، حيث تعتزم المملكة المتحدة المساهمة في تطوير بنيات تحتية رياضية مستدامة بالمغرب.
لا يسعنا إلا أن نشيد بالمجهودات الكبيرة التي تبذلها الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس، نصره الدبلوماسي الأول، وبوزير الخارجية ناصر بوريطة، المعروف بمهارته الحاسمة في إدارة الملفات الكبرى، وبالسفراء الذين يمثلون المغرب في المحافل الدولية، هؤلاء السفراء لم يكونوا مجرد ممثلين دبلوماسيين، بل كانوا فاعلين رئيسيين في صياغة السياسات وتعزيز الشراكات الاستراتيجية التي تخدم المصالح الوطنية للمملكة.
السفير حكيم حجيوي، لدى المملكة المتحدة، يواصل العمل على ترسيخ موقف بريطانيا الداعم لمقترح الحكم الذاتي المغربي، مما يعكس نجاح الدبلوماسية المغربية في كسب مواقف دولية مؤثرة.
السفير يوسف العمراني، لدى الولايات المتحدة الأمريكية، لعب دورًا محوريًا في تعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، خاصة في ملفات الأمن والتعاون الاقتصادي، كما ساهم في ترسيخ الدعم الأمريكي لموقف المغرب في قضية الصحراء.
السفيرة سميرة سيطايل، لدى الجمهورية الفرنسية، ساهمت في الحفاظ على العلاقات التاريخية بين البلدين، رغم التحديات السياسية التي شهدتها المرحلة الأخيرة.
السفيرة كريمة بنيعيش، لدى إسبانيا، كانت في قلب الدبلوماسية المغربية خلال محطات دقيقة، حيث لعبت دورًا رئيسيًا في تعزيز العلاقات المغربية الإسبانية، خاصة في ملفات الهجرة والأمن والطاقة، وساهمت بفاعلية في تجاوز الأزمات الدبلوماسية بين البلدين.
إلى جانب الدبلوماسية الرسمية، تلعب الدبلوماسية الموازية، سواء الإعلامية أو المدنية، دورًا محوريًا في تعزيز صورة المغرب دوليًا والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية. الإعلام المغربي، عبر الصحافة المكتوبة والمرئية، ساهم في نشر الوعي حول قضية الصحراء المغربية، حيث أصبحت وسائل الإعلام أداة فعالة في مواجهة حملات التضليل والتشويش، كما أن المجتمع المدني المغربي، من خلال الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، يؤدي دورًا مهمًا في تعزيز صورة المغرب دوليًا، من خلال تنظيم فعاليات ومؤتمرات دولية، وإيصال صوت المغرب إلى مراكز القرار العالمية.
هؤلاء السفراء، إلى جانب القيادة الملكية الحكيمة والدور الاستراتيجي لوزير الخارجية ناصر بوريطة ، شكلوا مفاجأة لأعداء الوحدة الترابية، حيث استطاعت الدبلوماسية المغربية، بفضل رؤية ملكية محكمة واستراتيجية تكتيكية دقيقة، أن تفرض وجودها على الساحة الدولية بثقة وقوة.
واعتبارًا لما حققته الدبلوماسية المغربية من مكتسبات، فإن ما نحتاجه اليوم ليس فقط تعزيز هذه النجاحات، بل تأمينها عبر تقوية الجبهة الداخلية والتصدي بحزم لمحاولات التشويش التي تسعى إلى تقويض هذه الإنجازات.
التلاحم الشعبي والاقتصادي والمؤسساتي يُشكّل الركيزة الأساسية لضمان استمرار نجاحات المغرب في هذا الملف، حيث لا مجال للتهاون أو انتظار التحولات، بل يجب أن يكون المغرب هو المُحدد للمعادلة السياسية في المنطقة.
المغرب اليوم لم يعد مجرد دولة تبحث عن تأييد سياسي، بل أصبح نموذجًا يُدرس في كيفية بناء التحالفات وإدارة القضايا الخارجية بحكمة وذكاء، لكن هذا النجاح الدبلوماسي لا يكتمل دون جبهة داخلية قوية، قادرة على تحصين المكتسبات ضد أي حملات تشويش أو محاولات للنيل من سيادة المغرب، فوحدة الصف الوطني، ووعي الشعب بأهمية المرحلة، والتلاحم بين مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، يُعد الركيزة الأساسية لاستدامة هذه الإنجازات، فالتصدي لمحاولات التشكيك لا يكون فقط بردود الفعل، بل بمواصلة تحقيق النجاحات، وإبراز النموذج المغربي في التنمية والاستقرار كحقيقة واقعية تُفرض على الجميع.
تلكم مسؤوليتنا جميعًا، فالمغرب اليوم ليس في مرحلة انتظار الاعترافات، بل هو في موقع القيادة، يفرض مواقفه بإرادة وطنية واضحة ورؤية ملكية حكيمة تُحدد المسار وتصنع التحولات الجيوسياسية بقوة وثقة، وبتلاحم مثين يتجدد باستمرار بين العرش والشعب.
عذراً التعليقات مغلقة