للتاريخ من يحكيه : “إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة”

Devlop Design29 أغسطس 2022آخر تحديث :
للتاريخ من يحكيه : “إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة”

كواليس صحراوية : بقلم / فيصل رشدي

دقق النظر في عيني، كان وجهه أبيضا، وعيناه كبيرتان، فمه صغير، لحيته البيضاء بدت طويلة عما ألفته من الوجوه التي أعرف. وبدت عليه ندبات غرست في وجهه ، أثار طفولة لم يمحوها الزمن. كنا عشرة أشخاص حول طاولة مستديرة. جلس بالقرب مني، وجه من جديد عيناه اتجاهي. ابتسمت ابتسامة بدت على وجهي ، فقال لي:
–  هل أنت من أهل العريس؟
أجابته بإشارة تترجم جوابي فقلت له:  نعم.
–  وماهي قرابتك به؟
فقلت له: إنه ابن أختي.
فابتسم وقال نعم الأصل أنت. وصمت الرجل.
كان يرى الأشخاص وهم يتناولون أطراف الحديث، ويردد على لسانه بصوت يكاد يسمع: ياحي يا قيوم ندعوك باسمك الأعظم العظيم أن تحفظ أبناءنا من شر الفتن، ومن القول بلا فعل، ومن مفاتن الدنيا التي كانوا أمس القريب لا يعرفونها. لم أبه للأشخاص الذين كانوا حولي ، فلفت انتباهي الرجل الشيخ، وبساطته ، ودراعته البيضاء، ولثامه الأسود. اقترب مني فقال في أذني: هذا الشباب يتكلم ، وكلامه بلا معنى ولا فائدة ، فلان بطرون ، فلان كبش ، فلان دكش ، فلان سمين. ياولدي ألم ترى أن السمنة كانت ترادف الأكباش والآن تلازم الأشخاص. فضحكت ملء فمي ، وقهقهت حتى لفت انتباه الجميع. فصمت لكن الضحك لازال يسري في جسدي ولا ينقطع. بعد أن عاد الجميع إلى الحديث، وهو حديث لايسمن ولا يغني من جوع ، سوى الدنيا التي نعلم أننا راحلون عنها لامحالة.
اقتربت من الرجل ، فقال لي : تبدو غريبا ياصاح عن العيون. فأجبته : أنا من الطانطان يا عماه.
فابتسم وقال لي : الطانطان معدن الرجال والكرام، وفقهاء العلم، والرجال الأشاوس. صمت هنيهة ، فقال: قلت من الطانطان ؟
فأجبت بنعم. نظرت إلى وجه الرجل، فبدا كأنه يتذكر شيئا ما.
فقال لي : ذكرتني يا ابن أخي بأخ عزيز وصديق غال.
فقلت له : من يكون؟
فنظر إليه نظرة تملوها العودة إلى الماضي و التحدث عن شخص عظيم . إنه إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة.
أتعرفه : فقلت له نعم.
فقال لي: أنا من أعرفه، يا بني ، فهذا رجل عظيم، كريم، أصيل، هذا الذي أعرفه مثل معرفتي لأبنائي، وسأحدثك عنه؟
إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة من مواليد 1929. منذ ولادته عرف الحياة، وأحب تاريخ الرجال، و تعلم مبادئ الحياة المتأسسة على المودة والتكافل وقول كلمة الحق ، لم تغره الدنيا، ولم تخضعه لها . عاش مع أهله كريم القوم، عزيز النفس ، حتى التحق بالجندية . انخرط في جيش التحرير المغربي، فعمل بكل من الحاجب و بنكرير وطرفاية، فكان نعم الرجل في التفاني في العمل وقدوة ومثلا أعلى للشباب الذين عملوا تحت إمرته. وأضيف لك يا ابني أنه شارك في حرب أكتوبر بمصر عام 1973، وكانت مصر بمثابة معبر لاختبار الرجال . ففي مصر قرر إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة، أن يخلو بنفسه إلى ربه في جبل الطود، فانقطع لعبادة رب العباد، فعاد إلى أهله وفي نفسه شيء من خلوة جبل الطود . وعاد إلى مدينة طانطان ، فكان يلزم بيته ثلاثة أيام طوال ، يتعبد فيها ويقرأ ماشاء من كتاب الله.
رأيت وجه الرجل الشيخ، وهو يحكي عن صديقه بنوع من الأسى والحزن ، فقال لي : الرجال لا ينساهم التاريخ ، فرجال الطانطان لهم كرامة وعزة نفس ليست كباقي المدن الأخرى ، وتلك الشيم هناك من احتفظ بها، وهناك من افتقدها. لقد ذكرتني يافتي بالرجل الكريم والأصيل والمضياف وعزيز النفس إبراهيم ولد حمدي ولد عمار ولد ميارة.
صمت وقال لي : هل تعلم يا بني أن وفاته لم أحضر فيها.
فقلت لماذا ؟
فقال لي : توفي عام 2004/07/12. وأسفاه! ولأنني فقدت أخا عزيزا، وأخا كريما ، وصديقا وفيا. فتاريخ أهل ميارة تاريخ الرجال العظماء.
صرخ نادل وسط القاعة ، من لديه سيارة بيضاء من نوع داسيا ، فقد أغلقت الباب على صاحب المنزل. فقال الشيخ : إنها سيارتي. خرج الرجل من القاعة. فانتظرته ولم يعد. دققت النظر في النادل فسألته عنه. فقال لي : لم أراه.
اصطفت الصحون ، ووضعت على الموائد ، وضعت شتى الأطباق، لكن عيني ظلت تراقب الباب. أكمل الجميع الاكل. فسألت الذين حولي هل يعرفون الرجل؟
فقالوا لي : لا.
ضربت أخماسا في أسداس.
أين الرجل؟
نظرت إلى أسفل فوقعت عيني على ساعة ذهبية.
فحملتها ، وقتما جاء أعطيها له.

أعزائي القراء، من وجد منكم هذه المواصفات لهذا الرجل فليخبرني رجاء ، فقد سقطت ساعته الذهبية، وأريد أن أعيدها إليه.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة