الأديـب “سعيـد كويس” يقـدِّم إضـاءة تاريخيـة حـول موضوع : كنتـة..تكنـة، أي علاقـة؟

Devlop Design7 يوليو 2024آخر تحديث :
الأديـب “سعيـد كويس” يقـدِّم إضـاءة تاريخيـة حـول موضوع : كنتـة..تكنـة، أي علاقـة؟

كواليس صحراوية : كلميم

إن ارتباط كنتة بتكنة أقدمُ مما يراه بعض القاصرين فكريا ووجدانيا وعاطفيا من الطرفين اليومَ .. فتكنة نتيجةُ تفاعلات اجتماعية تلت عصرَ بني مرين الذي عرف تحالفا بين زناتة الأمازيغ ومعقل العرب الذين منهم عرب حسان، ومن المعروف أن الشيخ سيدي محمد الكنتي الكبير تحالف ضد أخواله الصنهاجيين مع أولاد الناصر، فكانت تلك التحالفاتُ المتداخلةُ بداياتٍ دافئةً للتوارداتِ الأولى .. ؛ فكانت تكنة في عهد أحمدَ المنصورِ السعديِّ بعد ذلك إحدى التشكيلات القبلية في سوس وادنون (ديوان قبائل سوس) .. وكانت كنتة من المجموعات الصحراوية السوسية الموالية للسلطان المنصور (الشيخ سيدي المختار الكنتي، و”الإعلام بمن زار أغمات و مراكش من الأعلام”).
وبعد الدولة السعدية عاشت منطقةُ سوس اضطراباتٍ كثيرةً وفِتَنًا قبل بسطِ الدولة العلوية الشريفة حكمَها على المنطقة، وقد دامت تلك الفتن ثلاثا وسبعين عاما (المختار السوسي) .. اضطُهِدت فيها بعضُ المكونات، وهيمنت مكوناتٌ أخرى؛
فالذاكرة المحلية تحتفظ بكثير من الروايات الشفهية والوثائق المحلية التي تتحدث عن صراعات دموية بين مكوني أولاد دريس وكنتة (أشار الشيخ سيدي محمد الخليفة إلى ذلك الصراع بِ “هاوية كناتة”، واحتفظت ذاكرة تگوصت بروايات شفهية متماسكة عن تعرض الكنتيين لمذبحة في أگوص من تگوصت)، واحتفظت تلك الذاكرة كذلك باضطهاد إداوبلال لتكنة .. (لا يبَگِّي تكنه على أحرارها).
والتأمل في حركية لعروصيين في المجال الصحراوي من سوس إلى مدينة ولاتة، واحتفاظ بعض الأسر فيها وفي غيرها من القبائل الصحراوية بكنية “السملالي”؛ يشي بعلاقات متجذرةٍ ربطت تلك القبائل والمكونات بسلطة إداوسملال في سوس و الصحراء ..
ومن الطبيعي أن تصعد من جديد المكونات المضطهدةُ بعد تراجع سلطة إداوسملال لصالح سلطة الدولة العلوية؛ فتستعيد كنتة مكانتها المفقودة، وتتحرر تكنة من اضطهاد “جانا الدوبلالي”، وتملأ الرقيبات الفراغ الحاصلَ من تراجع دور لعروصيين في المجال الواسع …
ومن الطبيعي كذلك أن يظهر دور تكنة في المجال الصحراوي الواسع (حملة تكنة تحت راية المولى إسماعيل العلوي نصرة لعلي شنظوره)،
كما أن عودة الكنتيين إلى الوطن الأم سوس الذي طُردوا منه تحت نار الفتنة وذُبِّحوا فيه، ليست إلا عودة طبيعية وواعيةً بتاريخ المنطقة .. و تُشَمُّ في هذا الإطار من استنطاق المعطيات التاريخية رائحةُ استراتيجية كنتية تبلورت على يد الشيخ سيدي المختار الكنتي أو في عهده على الأقل؛ ففي نهاية حياة الشيخ سيدي المختار الكنتي حدثت حركيةٌ تكنية في مجال تكنة وإعادةُ انتشارِ مكوناتها في المجال بشكل لا يمكن تفسيره بغير التأثير الكنتي المختاري المباشر أو غيرِ المباشر في مجريات أحداث المنطقة ..
لقد كان أول ظهور للعناصر الكنتية العائدة إلى منطقة سوس و وادنون مع محمد بن امحمد الكنتاوي الذي كان حيا سنة 1181 هـ، ويبدو أنه قد أسندت له مهنة توثيق العقود ..
وكان ثانيَ ظهور لتلك العناصر الكنتية ظهورُ سيد ألمين بن اعزيزي في تَجَنَانتْ بين أسرير وتيغمرت حيث تشهد عليه إلى اليوم “نوبة بن اعزيزي” (نوبات توزيع الماء في مجال أژوافيط).. و كان قدومه إلى المنطقة في حياة الشيخ سيدي المختار؛ فإن لم يكن أرسله الشيخ مبعوثا إلى المنطقة لعلاقته به (والده اعزيزي ابن عم لالة عائشة زوجة الشيخ)، فقد جاء من تلقاء نفسه مستغلا سمعة الشيخ و شهرته و وعيه بأهمية منطقة سوس و وادنون عند الكنتيين .. كان مجيء بن اعزيزي في بدايات القرن الثاني عشر الهجري وهي المرحلة التي تشهد عليها وثائق أهل اعزيزي وأهل انَّه في موريتانيا اليوم و رواياتهم الشفهية؛ فأبناء اعزيزي كانوا من ودان قد توجهوا غربا إلى الشمال وعند العودة لم يعد معهم سيد ألمين (الدمين) بن اعزيزي (المرحوم الدوة ول اعزيزي).

و لقد ربطت سيد ألمين بن اعزيزي علاقة محبة وقرابة بأسرة من أيت لحسن ايت داود و عبدالله حين كانت أيت لحسن ما زالت في منطقة أسرير، كان ثمرةً لتلك العلاقة عبد الله ولد لحسن جد أسرة أهل عبد الله ولد لحسن اليوم في مدشر لگصابي، وعبد القادر بن سيد ألمين بن اعزيزي جد أسرة أهل عبد المالك بن عبد القادر بن اعزيزي في تيسگنان .. و المعطيات التاريخية تشي بأن عبد الله ولد لحسن هو مهندس حملة أيت لحسن على تگوصت لأن إحياء الصراع الكنتي الإدريسي القديم الذي ذكره الشيخ سيدي المختار في كتاب “المنة” حين تحدث عن كرامة سيدي المختار الشيخ، و الذي ذكره في رسالته للسلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي عند حديثه عن عبد المالك الحيوني الإدريسي عامل السلطان على مملحة تيغازة بأزواد؛ كان العاملَ الأساس في تحريك أحداث المرحلة…فكانت بذلك أيت لحسن أولى قبائل تكنة التي احتضنت الكنتيين و دافعت عنهم و مكنتهم في أرض أجدادهم التي كانوا ينعمون بخيراتها ذات يوم في ظل سلطة سياسية قوية قادها المنصورُ الذهبي..
ولم يمت الشيخ سيدي المختار الكنتي حتى كانت منطقة وادنون قد تبدلت ملامحها و شهدت إعادة انتشار كبرى للمكونات التكنية (في خزانة وثائق أهل لمجيدري أزوافيط عقد مكتوب سنة 1226هـ يوثق اتفاقا وقع سنة 1224هـ يتضمن إعادة توزيع نوبات الماء في القرية بعد الفراغ البشري الحاصل بسبب انتقال أسر كثيرة من أيت لحسن إلى تگوصت) ..
إن التعاقد الذي حصل بين أيت لحسن وعبد القادر بن اعزيزي في توزيع عقارات لگصابي وتيسگنان يكشف عن المكانة الخاصة التي كانت تحظى بها كنتة عند المكونات التكنية عامة ومكون أيت لحسن خاصة (وثائق أسرة أهل عبد المالك البنعزيزي، كثير منها في ملحق وثائق أطروحة عمر ناجي عن أيت لحسن)، كما يكشف عن أن أيت لحسن لم يسبقها من تكنة من احتضن الكنتيين ودافع عنهم ..
و لقد استقرت في قبيلة إزرگيين أسرة من أهل لژرگ كذلك تعرف اليوم بأهل سيدي يوسف؛ ربما لعلاقة قديمة تجمع إژرگيين بكنتة تحدثتُ عنها سابقا، وبذلك تكون تكنة الساحل (أيت الجمل) هي الأكثر حظا من علاقات كنتة بتكنة منذ التواردات الأولى إلى اليوم .. ولا يفوتني هنا أن أقف كذلك على علاقة أيت أُسا بكنتة التي جمعت بين مرحلتيْن مختلفتين متباعدتين: مرحلة اندماج العناصر الكنتية في تشكيلات أيت أُسا الأولى (إمغلاي)، ومرحلة احتضان أبناء الشيخ سيدي امحمد الكنتي بعد مقتله في گور اگنيفيدة ..
ومن الطبيعي كذلك أن يتشدد بعض الكنتيين حين يسمع أن أيت لحسن ربطتها علاقة بكنتة قبل غيرها، لأن كنتة أصلا في بلاد الصحراء المترامية نخرتها الصراعات و التدافعات والأحقاد بين مكوناتها فاجتمعت كل تلك العوامل وانضافت في وادنون إلى صراعات تكنة في ما بين مكوناتها وتدافعات تلك المكونات ..
فالشيخ سيدي امحمد الكنتي دفين گور اگنيفيدة جمعته مصاهرة مع اعبيد الله وسالم الموسوعلي (إحدى زوجاته بنت اعبيد الله و سالم)، و تحالف مع قبيلة يگوت التي حاربت معه حتى الرمق الأخيرِ و لم تَتَخَلَّ عنه (رسالة سيدي امحمد الكنتي إلى الشيخ سيديا “كتاب الأخبار” لهارون ول الشيخ سيديا) ..
تأتي بعد مرحلة سيدي ألمين بن اعزيزي الذي اختارت أسرته الاستقرار في بنية تملك عقارية في تشكيلة قبلية جديدة في منطقة تگوصت، مرحلةُ سيدي امحمد الكنتي حفيد الشيخ سيدي المختار الذي اختار فيها أن يكون صاحب مشروع حكم سياسي للمنطقة تابع للسلطان المغربي، بينما اختار بعض خصومه أن ينعتوه بالمتمرد على السلطان نكاية به و بمشروعه؛ و كل القرائن المرتبطة ببلاد تكنة و أهلها، و بما ذكرناه عن استراتيجية كنتية لاستعادة كنتة مكانتَها عند الدولة المغربية المركزية، تقف شاهدا على خلاف ذلك الرأي المتحامل.
بعد مقتل سيدي امحمد الكنتي في گور اگنيفيده تفرقت ذريته في المجال بين أيت أُسَا (گور اگنيفيده) وأيت مسعود (تَيْسَّه) واعريب (لنا تدوينة خاصة عن علاقات كنتة باعريب و النواجي) و غيرهم ..
و يبقى الشيخ عابدين الوارثَ الأول لتراث أهل سيدي امحمد الكنتي لأنه قاد الجهاد ضد المستعمر بكاريزما والده المتميزة .. وقد ترك ابنه شياخ سمعة تتردد أصداؤها إلى اليوم في أودلاد دليم وغيرهم ممن عايشوا بلاءه في الحرب والجهاد. كما ترك أخوه سيدي بوبكر شهرةً و سمعة في سوس والصحراء .. و من تلك الذرية التي استمرت على نهج آبائها مولاي ول شياخ، ومولاي الشيخ ولد سيدي بوبكر ..
ستأتي مرحلة ثالثة ستتسرب فيها إلى بلاد تكنة عناصرُ كنتية أغلبُها من كنتة الغرب القادمين من بلاد شنقيط في سياقٍ آخرَ اشتركت فيه كلُّ قبائل بلاد شنقيط و لا يعني كنتة وحدها؛ فقد عرفت المنطقة استقبالا لكثير من الشناقطة، كان أكثرهم من جاؤوا بمجيء أهل الشيخ ماء العينين للمنطقة .. ومن الشناقطة من جاء قبل الشيخ ماء العينين. ومنهم من جاء معه، ومنهم من جاء لاحقا ..
ومن كنتة الغرب الذين حلوا بالمنطقة واختاروا الاستقرار فيها المدعو محمد المختار بن أحمد بن عبد الرحمان الكنتاوي الذي اختار سنة 1914م أن يذبح على أسرة من أژوافيط اعترافا بالعرف التكني و انضباطا له، وقد وثق الكنتاوي ذلك بمحض إرادته و رضاهُ في عقد عدلي أورده الباحث الدكتور بوزيد لغلا في مقال له منشور في كتاب جماعي ضم مداخلاتٍ مشاركةً في الندوة العلمية الأولى التي نظمها المجلس العلمي المحلي في گلميم سنة 2013 .. “يتصدر العقد التصريح بالأخوة بين الطرفين .. غير أنه تضمن لفظا زائدا على العقود المتقدمة .. أنه أخ لآل البشير بن احمَدات و ذابح عليهم” و الذابح في العرف التكني هو الطالب للحماية في حالة الضعف .. وهي كذلك “عرف مائز للانتقال من وضع إلى وضع .. و هو في هذه النازلة الانتقال من وضع الانتماء إلى قبيلةٍ (كنتة) إلى وضع الولاء لقبيلة أخرى (أژوافيط)” .. فالعقد إذًا “يقر بالعرف التكني مرجعًا و يسند النيابة في دفع العدوان و اقتضاء الحقوق المترتبة للعاقد الكنتاوي لأهل احمَدات”.
يبقى التأسيسُ لعودة كنتة إلى وطنها الأم سوس عموما وبلاد تكنة الحليفِ القديمِ على وجه الخصوص، ويبقى الإرساءُ لتلك العودة في المجال، من فعل كنتة الشرق أهل لژرگ وأهل الشيخ لعلاقاتهم القديمة بالمجال (ذرية سيد أحمد الفقيه و ذرية سيد أعمر الشيخ) .. وتتساوى المكونات الكنتية مجتمعةً في جني ثمار ذلك التأسيس وذلك الإرساء في المجال .. وتبقى الظاهرة الكنتية في مجال تكنة مغنما يمكن استثماره لإحياء تاريخ تكني مجيد شكل على الدوام معبرا للمغرب الجبلي إلى المغرب الصحراوي، ومن الصحراويِّ إلى الحبلي؛ ألَم يمدح الشاعر عبد الله بن يوسف الوادنوني مادحا المولى إسماعيل العلوي عند عودته من صحراء المغرب عبر وادنون سنة 1089هـ :
هَوايَ عَلى تِلكَ المَهارى الرَّواسِمِ
بِتِلْكَ الخُدُورِ المائِلاتِ القَوائِمِ
تَبَدَّتْ مِنَ آفاقِ الهِضَابِ كَأَنَّمَا
تسُوق رٍياح عاكِراتُ الغَمائِمِ
كأنَّ بُروقَ الْجَوِّ يَبْرُقْنَ فوْقَها
تَوالي ابْتِساماتِ الثُّغورِ البَواسِمِ
تَحومُ أمانِيُّ الوَرى فوقَ جَوِّهِ
كَطَيْرٍ إذا ما سارَ سِرْنَ حَوائِمِ
يَصونُ طَليعاتِ الخَميسِ بِبَأْسِهِ
كَما صِينَ ريشٌ مُخْتَفٍ بالقَوائِمِ
خَميسٌ تَضيقُ الفِيحُ مِنْ جَنَبَاتِهِ
كما امْتَدَّ دونَ السَّيْفِ خُضْرُ الخَضارِمِ
هَنيئًا أميرَ المؤْمِنينَ بِأَوْبَةٍ
مِنَ أرْضِ المَنايا و الرَّدى و المَلاحِمِ
عَزَمْتَ فَنِلْتَ الفَتْحَ فَذًّا مُوَقَّرًا
“على قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ نَيْلُ العَزائِمِ”؟.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة